.آزاد أحمد علـي
تفتقر الثقافة العربية إلى الأدبيات الحضرية، وبشكل أكثر دقة تفتقر للكتب والدوريات التي تهتم بتاريخ العمارة والتمدن والعمران وتقنياتها. وإذا وضعنا الكتب المترجمة جانباً تبقى تلك المؤلفة أو المعدة باللغة العربية قليلة جداً، خاصة إذا قارنا هذا الكم المتواضع الصادر، بما يصدر في هذا الحقل باللغات الأخرى. ويبدو أن السبب الرئيسي لهذا الفقر يعود إلى أن معظم الجامعات العربية تعتمد المراجع الأجنبية في تدريس العلوم الهندسية، كما أن المختصون في الهندسة المعمارية قلما يكون لديهم الوقت الكافي للكتابة والتأليف في مجال اختصاصهم. وعلى الرغم من ذلك تصدر في بعض الدول العربية كتب تعالج مسائل معمارية وعمرانية متنوعة. وهذه الإصدارات انقسمت منهجيا على محورين رئيسين، الأول تلك التي تتبنى المنهج أو الأيديولوجيا القومية " العروبية" في التأليف { سورية والعراق نموذجاً} حيث يتبع المؤلف حسب هذا المنهج التفسير القومي للتأريخ وللحضارة المادية في المنطقة، ويتم تأويل الظواهر الحضارية إلى خصائص قومية موضوعية بارزة، كما تعتبتر عمارة المنطقة عربية خالصة ومنجزة وبالغة حد الكمال، وحققت الأمجاد منذ العصور الحجرية وحتى تاريخه؟! وذلك انسجاما وتوافقاً مع الطروحات القوموية السائدة.
وبالتوازي مع هذا المنهج وعلى المحور الثاني صدرت مؤلفات ترجح الجانب الإسلامي في حضارة المنطقة وتتبنى المنهج الديني لتفسير الظواهر العمرانية والخصائص المعمارية وبالتالي تؤرخ لتراث المنطقة المادي من هذا المنظور، وذلك لترجيح الهوية الإسلامية لعمارة وعمران المنطقة. وعادة تصدر هذه الأخيرة في دول الخليج والمملكة العربية السعودية وفي الآونة الأخيرة في مصر. وهي تضفي في خطها العام على العمارة "الإسلامية" أيضا الكمال والقدسية. ومن ضمن هذا النسق ظهر مؤخراً كتاب بعنوان "العمارة الإسلامية والبيئة، الروافد التي شكلت التعمير الإسلامي" للدكتور يحيى وزيري. ومنذ الصفحات الأولى للكتاب يبدو جليا للقارئ أن هذا الكتاب استجابة لهذه المرحلة التي يتصاعد فيها الموجة الإسلاموية فكراُ وسياسة. فالقارئ الموضوعي يصدم بهذا المحتوى المؤدلج والمستنفر والمشحون بالأدلة والشواهد والنصوص، سواء من القرآن الكريم أم الحديث الشريف وخاصة في الفصل الأول، حيث يحمل النص القرآني ما لا يستحب تحميله من تفاسير علمية وهندسية وبيئية! فعلى سبيل المثال لا الحصر:
يفترض الباحث تأثر المعمار المسلم وبالتالي العمارة الإسلامية مباشرة بالقرآن الكريم. إذ يقول: ((فالآيات الكريمة السابقة توضح أحد الجوانب الأخلاقية في الفكر المعماري الإسلامي عند عمارته للأرض والبيئة، فعمارة الأرض عمل تعبدي وإيماني في المقام الأول من أجل تنفيذ مشيئة الله سبحانه وتعالى في عمارة الأرض وعدم الإفساد فيها بعد إصلاحها. لقد فجرت الآيات القرآنية في الإنسان المسلم قدرات خلاقة وأيقظت أحاسيسه للتعرف على القيم الجمالية والارتباط مع عناصر البيئة المحيطة، لذلك فقد تعدى المعماري المسلم مرحلة التفكير والتأمل في هذه الآيات إلى مرحلة التأثر بها في العديد من أعماله الفنية والمعمارية...))ًص ـ40
فبهذه المنهجية يعتبر الدكتور وزيري أن أول وأهم المؤثرات التي ساهمت في تكوين العمارة والفنون الإسلامية هي: ((البواعث الدينية والنظم السياسية والتشريعية والتعاليم الدينية)) في حين تأتي تأثير الحضارات السابقة للإسلام بكل تراثها المعماري المتجسد على الأرض في المرتبة الثانية، أما المؤثرات المناخية ومواد البناء المتوافرة محلياً فتأثيرها يأتي في المرتبة الثالثة. وهذا الترتيب يشكل جوهر منهج الباحث ولب هذا الكتاب. وهو ما جعل موضوع ومضمون هذا الكتاب إشكاليا، على اعتبار أن أغلب المتخصصين يرجحون أن الصحيح في منهجية التناول العلمي لتطور الحياة العمرانية هو عكس هذا الترتيب، وهي تبرز درجة وقوة وفاعلية المؤثرات البيئية التي تصيغ شكل ومحتوى أي عمارة بالترابط مع الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية للمبنى موضوع الدراسة. وإضافة لذلك يقع الباحث في بعض التناقضات عندما يستعرض في الفصل الثاني التفاعلات الحضارية التي شكلت العمارة الإسلامية، حيث يعتبر أن المنزل الرافدي مطابق للمنزل الإسلامي وليس العكس! ونظراً للحماس المبالغ فيه لمنهجه الديني في كتابة تاريخ العمارة يعتبر تراث حضارات المنطقة الذي سبق الإسلام امتداداً له؟! وبذلك يعتبر أن الهوية الإسلامية لعمارة المنطقة هي منجزة وثابته.
ثم عند تصنيفه الفرعي للأنماط المحلية للعمارة الإسلامية يقع في شر التصنيف الاستشراقي فيكون إقليماً (مدرسة مصر وسورية) وقومياً (الفارسية) حيناً آخر وإمبراطورياً (العثمانية) في نهاية المطاف. ويسعى الكاتب مجتهداً ليوحدها جميعاً في إطار "العمارة الإسلامية" ويجسدها بل يختزلها في المنشآت الدينية.
وعلى الرغم من كل هذا الحماس الأيديولوجي الذي سيطر على منهجية الكتاب، لا يخلو النص من جوانب تخصصية هامة، فقد تم في الكتاب إعادة تجميع وترتيب وصياغة الكثير من المعلومات التي تهم القارئ العام والمختص على السواء، من حيث سرد المعطيات التاريخية أو تحليل المفردات المعمارية لعمارة المنطقة. إلا أن هذه النظرة العلمية الموضوعية متأثرة بالنموذج "المصري" المصمم على معرفة مبكرة بالعديد من العلوم وعلى "أساس معرفة دقيقة بعلم الصوتيات" حيث يقوم الباحث بقياس درجة الضجيج في الشارع ومن ثم في داخل المنزل، ومن المنطقي أن الضجيج سيكون أقل في الداخل نظراً لسماكة الجدران الحجرية الحاملة، والتي تقوم بداهة بوظيفة التخامد لشدة الضجيج... وبهذا المنطق يعتبر العمارة الإسلامية كانت تشاد على أساس معرفة مسبقة بعلوم الفيزياء المعاصرة. و هنا لابد من التأكيد أنه ليس من الحكمة استحضار الماضي واستنطاقه بواسطة العلوم المعاصرة "الفيزياء" وبمساعدة أجهزة قياس الضجيج الإلكترونية.
إن تحميل هذه المنشآت والنماذج المعمارية أكثر مما تتحمل يترتب عليه أولاً الإعلان عن نهاية التطور المعماري وإبداعات المعمار والمهندس المعاصر، و تزيد الشكوك في مصداقية التأريخ الموضوعي للعمارة والتمدن في المنطقة ثانيا.
أخيراً يفتقر هذا الكتاب الهندسي إلى أي صورة أو مخطط أو شكل توضيحي، وكذلك إلى خاتمة كان من المفترض على المؤلف الدكتور المهندس يحيى وزيري أن يضعها ليعلن بوضوح أكثر: عن وحدة العمارة الإسلامية من جنوب شرق آسيا وحتى أمريكا، وذلك توافق مع الشعارات السياسية ـ الدينية الصاعدة اليوم.
ـــــــــــــــــــــ
الكتاب: العمارة الإسلامية والبيئة
المؤلف: د.م.يحيى وزيري
0 التعليقات:
إرسال تعليق
* اثبت وجودك ...... شاركنا التعليق ........ تنموا المعلومة وينتفع الجميع .
* ارجوا من السادة المشاركين عدم وضع رد به روابط اعلانية خارجية .
* انتبه الى الفاظك واعلم ان عليك رقيب .
تحياتى م. على حسين الفار